وهذه فتوى شيخ الإسلام في الجزء الثامن والعشرين (ص:203) من مجموع الفتاوى: "وسُئل رحمه الله عمن يجب أو يجوز بُغضه أو هجره، أو كلاهما لله تعالى؟ وماذا يشترط على الذي يُبغضه أو يهجره لله تعالى من الشروط؟ وهل يدخل ترك السلام في الهجران أم لا؟ وإذا بدأ المهجور الهاجر بالسلام هل يجب الردُّ عليه أم لا؟ وهل يستمر البغضُ والهجران لله عز وجل حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها، أم يكون لذلك مدةٌ معلومة؟ فإن كان له مدةٌ معلومة، فما حدها؟ أفتونا مأجورين".
وهذا سؤال يدل على فقه سائله.
  1. أنواع الهجر في الشرع

    فأجاب رحمه الله: "الهجر الشرعي نوعان: أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها".
    أي الأول: أن تهجر أنت المنكر وتتركه، والآخر العقوبة، وهو أن تعاقب صاحب المنكر بهجره وقطيعته.
    ومن الأدلة على النوع الأول وهو هجر الشيء بمعنى تركه والابتعاد عنه، مثل قوله تعالى: ((وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ))[المدثر:5] والرجز: الشرك، وعبادة الأصنام.
    وقوله صلى الله عليه وسلم: {والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه}.
    وهناك علاقة بين الهجر والهجرة في لغة العرب، وعادةً ما يكون اتفاق وتقارب في المعنى اللغوي والشرعي إذا تقارب اللفظان في المبنى.
    وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عدداً من الأدلة فقال: "فالأول هو المذكور في قوله تعالى: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))[الأنعام:68].
    وقوله تعالى: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ))[النساء:140]." فالشاهد في الآيتين وجود معنى الهجر، كما قال تعالى: ((فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))[الأنعام:68].
    قال: "فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة شرعية، مثل: قوم يشربون الخمر فلا يجلس عندهم، أو قوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمْر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره" كأن يكون لا يعلم بذلك "ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله... إلى أن قال رحمه الله: "وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات كما قال صلى الله عليه وسلم: {المهاجر من هجر ما نهى الله عنه}، ومن هذا الباب: الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمُقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكِّنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى: ((وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ))[المدثر:5]"، وهذا النوع واضح؛ لكن ذكره لداعي التقسيم.
  2. هجر المبتدع تعزير له

    ثم ذكر النوع الثاني فقال: "النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يُظهر المنكرات حتى يتوب منها كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى أنزل الله توبتهم؛ حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعيِّن عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقاً. فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير.
    والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات، كتارك الصلاة والزكاة، والتظاهر بالمظالم والفواحش، والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، التي ظهر أنها بدع -هذا شاهد موضوعنا- وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تُقبل شهادتهم، ولا يُصلَّى خلفهم، ولا يُؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون".
    وهذا معلوم بالتواتر عن السلف رحمهم الله، أعني أن أصحاب البدع الداعين إليها لا تقبل شهادتهم، سواء كانوا من أصحاب الكلام أو من الخوارج والروافض، فأياً كانوا فشهادتهم مردودة، ولا يُزَكُّون، فإذا شهد أحد أهل البدع عند قاضٍ فإن شهادته مردودة، كما فعل شريك بن عبد الله القاضي فقد ردَّ شهادة حماد بن أبي حنيفة ؛ لأنه يقول: إن العمل ليس من الإيمان. وكذلك لا يصلَّى خلف أصحاب البدع، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا" ولهذا يفرِّقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويَكلُ سرائرهم إلى الله، مع علمه بحال كثيرٍ منهم".
    أي: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع المعذرين بعد غزوة تبوك، جاءوا يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم ليرضى عنهم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يقبل أيمانهم، ويعرض عنهم، ويكل أمرهم إلى الله، وهو يحاسبهم ويجازيهم.
    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا جاء في الحديث أن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تُنكر ضرَّت العامة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيِّروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب منه} أعاذنا الله من عقاب الله.
    يقول: "فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها؛ بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة".
    وأصحاب المنكرات الباطنة تقوم عليهم الحجة بالنصح والتذكير العام، فلو أنك وقفت في المسجد محذراً من بدعة ومخوفاً منها، والمستمعون أمامك فيهم من يعلم في نفسه أنه معتقد لهذه البدعة، فقد قامت عليه الحجة في نفسه، وهذه هي فائدة التذكير العام، وكذلك لو تكلمت في مسجد من المساجد عن شر الزنا وخطره وضرره، فكل جالس همَّت نفسه بالزنا، فأنت قد خاطبته وأقمت عليه الحجة، وهذا هو بالنسبة لمن يفعل المعصية سراً ويكتمها، أما المعلِن المجاهر فله حكمٌ آخر.